فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ ابْنُ مسعودٍ والأعْمَشُ، ورويت عن أبي عمرو: تَدَارَكُوا وهي أصل قراءة العامة.
وقرأ أبو عمرو {إذا إِدَّاركوا} بقطع همزة الوصل.
قال ابن جني: هذا مشكل، ومثلُ ذلك لا ينقله ارتجالًا، وكأنَّهُ وقف وقفة مستنكرٍ، ثم ابتدأ فقطع.
وهذا الذي يُعتقد من أبي عمرو، وإلا فكيف يقرأ بما لا يثبت إلا في ضرورة الشِّعْرِ في الأسماء؟ كذا قال ابنُ جنيٍّ، يعني أن قطع الف الوَصْل في الضَّرورة إنَّمَا جاء في الأسماء.
وقرأ حميد {أُدْرِكوا} بضم همزة القطع، وسكون الدَّال وكسر الراء، مثل أخْرِجُوا جعله مبنيًا للمفعول بمعنى: أُدْخِلوا في دركاتها أو أدراكها.
ونقل عن مُجَاهدٍ بْنِ جَبْرٍ قراءتان: فروى عنه مكي {ادَّرَكوا} بوصل الألف وفتح الدال مشدّدة وفتح الراء، وأصلها ادْتَرَكوا على افتعلوا مبنيًا للفاعل، ثم أدغم، كما أدغم ادَّان من الدَّيْن.
وروى عنه غيره {أدْرَكوا} بفتح الهمزة مقطوعة، وسكون الدَّال وفتح الرّاء، أي: أدرك بعضُهم بعضًا.
وقال أبُو البقاءِ: وقرئ: {إذَا ادَّاركوا} بألف واحد ساكنة بعدها دال مشدَّدة، وهو جمع بين ساكنين، وجاز في المفنصل كما جاز في المتَّصل، وقد قال بعضهم: اثْنَا عَشَر بإثبات الألف وسكون العَيْنِ، يعني بالمتصل نحو: {الضَّالين} وجانّ، ومعنى المنفصل أنَّ ألف إذَا من كلمة، والسَّاكن الثاني من كلمة أخرى.
وَ{ادّاركوا} بمعنى تَلاحَقُوا، وتقدَّمُ تفسير هذه المادة [النساء: 78].
و{جميعًا} حال من فاعل {ادَّاركوا}.
قوله: {أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ} يحتمل أن تكون فُعْلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة، والمعنى على هذا كما قال الزمخشريُّ: أخْرَاهم منزلة، وهم الأتباع والسَّفلة، لأوْلاهم منزلة وهم القادة والرؤساء.
ويحتمل أن تكون أخرى بمعنى آخرة تأنيث آخر مقابل الأوَّل، لا تأنيث آخر الذي للمفاضلة كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18].
والفرقُ بين أخرى بمعنى آخرة، وبين أخرى تَأنيث آخر بزنة أفعل للتفضيل، أن التي للتفضيل لا تدلُّ على الانتهاء، كما لا يدلُّ عليه مذكَّرها، ولذلك يُعطف أمثالُها عليها في نوع واحد تَقُولُ: مررت بأمراة وأخرى وأخرى كما تقول: مررت برجل وآخر وآخر، وهذه تدلُّ على الانتهاء، كما يدلُّ مذكَّرها، ولذلك لا يُعطف أمثالُها عليها، ولأنَّ الأولى تفيد إفادة غير، وهذه لا تفيدُ إفادة غير.
والظَّاهِرُ في هذه الآية الكريمة أنَّهُمَا ليستا للتَّفضيل، بل لما ذكرنا.
قال ابن عباس ومقاتل: أخراهم دخولًا في النار لأولاهم دخولًا فيها.
واللام في {لأولاهم} للتّعليل أي: لأجل، ولا يجوزُ أن تكون التي للتّبليغ كهي في قولك: قلتث لزيد افعل.
قال الزمخشريُّ: لأنَّ خطابهم مع اللَّه لا معهم، وقد بسط القول قبله في ذلك الزَّجَّاج فقال: والمعنى: وقالت أخراهم: يا ربَّنا هؤلاء أضلُّونا، لأولاهم فذكر نحوه.
قال شهابُ الدِّينِ: وعلى هذا فاللاَّمُ الثَّانية في قوله: {أولاهم لأخْرَاهُمْ} يجوز أن تكون للتَّبليع، لأنَّ خطابهم معهم بدليل قوله: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39]
قوله: {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا} يعني: أنَّ اأتباع يقولون: إنَّ المتقدّمين أضلّونا، يعني: أنَّ القادة أضلونا عن الهدى والدين فأتِهِمْ عذابًا ضعفًا من النَّارِ.
قال أبُو عبيدة الضِّعفُ: مثل الشَّيء مرةً واحدة.
قال الأزْهَريُّ: ما قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله النَّاسُ في مجاز كلامهم، وقد قال الشَّافِعِيُّ قريبًا منه فقال في رجل أوصى: أعطوه ضِعْفَ ما يُصيبُ وَلَدِي قال: يَعطَى مثله مرتين.
قال الأزْهَرِيُّ: الوصايَا يستعمل فيها العرف، وما يتفاهمه النَّاس، وأما كتاب اللَّهِ فهو عربيٌّ مبينٌ، ويُرَدُّ تفسيره إلى لغةِ العربِ، وموضوع كلامها الذي هو صنعه ألْسِنَتِهَا.
والضِّعف في كلام العرب المِثْل إلى ما زاد، ولا يقتصر به على مثلين، بل تقول: هذا ضِعْفه أي مِثْلاه، وثلاثة أمثاله، لأنَّ الضِّعْفَ في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فأولئك لَهُمْ جَزَاءُ الضعف} [سبأ: 37] لم يُرِدْ به مِثْلًا ولا مِثْلَيْن، وأوْلَى الأشياء به أن يُجْعل عشرةَ أمثاله كقوله تعالى: {مَن جَاءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فأقلُّ الضّعف محصور وهو المِثْلُ وأكثره غير محصورٍ.
ومثل هذه المقالة قال الزَّجَّاجُ أيضًا فإنَّهُ قال: أي عذابًا مضاعفًا؛ لأنَّ الضعف في كلام العرب على ضربين:
أحدهما: المِثْلُ، والآخر: أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته إلى ما لا يتناهى، وقد تقدَّم طرف من هذا في البقرة.
وأما قول الشَّافعيِّ في الوصيَّة: إنَّهُ المثل، فلأن التركة متعلقة بحقوق الورثة، إلا أنَّا لأجل الوصيّة صرفنا طائفة منها إلى الموصى له، والقدر المتيقن في الوصيّة هو المثل، والباقي مشكوك فيه فيأخذ المتيقّن ويطرح المشكوك فيه فلهذا السّبب حملنا الضِّعْفَ في الوصيَّة على المثلين.
قوله: {ضعْفًا} صفة لـ {عذابًا}، و{من النَّارِ} يجوز أن يكون صفة لـ {عذابًا}، وأن يكون صفة لـ {ضعْفًا}، ويجوز أن يكون {ضعفًا} بدلًا من {عذابًا}.
قوله: {لِكُلِّ} أي: لكلّ فريق من الأخرى، والأولى أو القادة والأتباع.
قوله: {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} قراءة العامّة بتَاءِ الخطاب: إمَّا خطابًا للسَّائلين، وإمَّا خطابًا لاهل الدُّنيا أي: ولكن لا تعلمون ما أعدَّ من العذاب لكل فريق.
وقرأ أبو بَكْرِ عن عاصمٍ بالغيبة، وهي تحتمل أن يكون الضَّمير عائدًا على الطائفة السّائلة تضعيف العذاب، أو على الطّائفتين، أي: لا يعلمون قَدْر ما أعدَّ لهم من العذاب. اهـ.

.تفسير الآية رقم (39):

قوله تعالى: {وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر ملام الآخرين على الأولين، عطف عليه جواب الأولين فقال: {وقالت أولاهم} أي أولى الفرق والأمم {لأخراهم} مسببين عن تأسيسهم لهم الضلال ودعائهم إليه {فما كان لكم علينا} أي بسبب انقيادكم لنا واتباعكم في الضلال {من فضل} أي لنحمل عنكم بسببه شيئًا من العذاب لأنه لم يعد علينا من ضلالكم نفع وقد شاركتمونا في الكفر {فذوقوا} أي بسبب ذلك {العذاب} في سجين {بما} أي بسبب ما {كنتم تكسبون} لا بسبب اتباعكم لنا في الكفر. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم بين تعالى أن أخراهم كما خاطبت أولاهم، فكذلك تجيب أولاهم أخراهم، فقال: {وَقَالَتْ أولاهم لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} أي في ترك الكفر والضلال، وإنا متشاركون في استحقاق العذاب.
ولقائل أن يقول: هذا منهم كذب، لأنهم لكونهم رؤساء وسادة وقادة، قد دعوا إلى الكفر وبالغوا في الترغيب فيه، فكانوا ضالين ومضلين، وأما الأتباع والسفلة، فهم وإن كانوا ضالين، إلا أنهم ما كانوا مضلين، فبطل قولهم أنه لا فضل للأتباع على الرؤساء في ترك الضلال والكفر.
وجوابه: أن أقصى ما في الباب أن الكفار كذبوا في هذا القول يوم القيامة، وعندنا أن ذلك جائز، وقد قررناه في سورة الأنعام في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23].
أما قوله: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} فهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة، وإن يكون من قول الله تعالى لهم جميعًا.
واعلم أن المقصود من هذا الكلام التخويف والزجر، لأنه تعالى لما أخبر عن الرؤساء والأتباع أن بعضهم يتبرأ عن بعض، ويلعن بعضهم بعضًا، كان ذلك سببًا لوقوع الخوف الشديد في القلب. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَقَالَتْ أولاهم لأُخْرَاهُمْ} أي: أولهم دخولًا لآخرهم دخولًا.
ويقال: القادة للأتباع {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} في شيء كفرتم كما كفرنا، فنحن وأنتم سواء في الكفر ضللتم كما ضللنا.
قال الله تعالى: {فَذُوقُواْ العذاب} ويقال: يقول الخزنة فذوقوا العذاب.
ويقال: هذا قول بعضهم لبعض فذوقوا العذاب {بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} أي: تكفرون في الدنيا بترككم الإيمان. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} لأنّكم كفرتم كما كفر به ونحن وأنتم في الكفر شرع سواء وفي العذاب أيضًا {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ}. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله عز وجل: {وقالت أولاهم لأخراهم} الآية، المعنى وقالت الأمة الأولى المبتدعة للأمة الأخيرة المتبعة أنتم لا فضل لكم علينا ولم تزدجروا حين جاءتكم النذر والرسل، بل دمتم في كفركم وتركتم النظر واستوت حالنا وحالكم فذوقوا العذاب باجترامكم، هذا قول السدي وأبي مجلز وغيرهما، فقوله فذوقوا على هذا من كلام الأمة المتقدمة للأمة المتأخرة، وقيل قوله: {فذوقوا} هو من كلام الله عز وجل لجميعهم، وقال مجاهد ومعنى قوله: {من فضل} أي {من} التخفيف.
قال القاضي أبو محمد: معناه أنه لما قال الله: {لكل ضعف} قال الأولون للآخرين لم تبلغوا أملًا في أن يكون عذابكم أخف من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف والنص عليه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله: {فما كان لكم علينا من فضل} فيه قولان:
أحدهما: في الكفر، نحن وأنتم فيه سواء، قاله ابن عباس.
والثاني: في تخفيف العذاب، قاله مجاهد. اهـ.

.قال الخازن:

{وقالت أولاهم} يعني في الكفر وهم القادة {لأخراهم} يعني الأتباع {فما كان لكم علينا من فضل} يعني قد ضللتم كما ضللنا وكفرتم كما كفرنا وقيل في معنى الآية وقالت كل أمة سلفت في الدنيا لأخراها الذين جاؤوا من بعدهم فسلكوا سبيل من مضى قبلهم فما كان لكم علينا من فضل وقد علمتم ما حل بنا من عقوبة الله بسبب كفرنا ومعصيتنا إياه وجاءتكم بذلك الرسل والنذر فما رجعتم عن ضلالتكم وكفركم {فذوقوا العذاب} وهذا يحتمل أن يكون من قول القادة للاتباع والأمة الأولى للأخرى التي بعدها ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى يعني يقول الله للجميع فذوقوا العذاب {بما كنتم تكسبون} يعني بسب ما كنتم تكسبون من الكفر والأعمال الخبيثة. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون} أي قالت الطائفة المتبوعة للطائفة المتبعة واللام في {لأخراهم} لام التبليغ نحو قلت لك اصنع كذا لأن الخطاب هو مع أخراهم بخلاف اللام أي في {لأولاهم} فإنها كما وقال مجاهد: معنى {من فضل} من التخفيف لما قال الله: {لكل ضعف} قالت الأولى للأخرى لم تبلغوا أملًا بأنّ عذابكم أخفّ من عذابنا ولا فضلتم بالإسعاف انتهى، والفاء في {فما} قال الزمخشري: عطفوا هذا الكلام على قول الله تعالى للسّلفة {لكلّ ضعف} والذي يظهر أنّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السّفلة في الدّنيا بسبب اتباعهم إياهم وموافقتهم لهم في الكفر أي اتباعكم إيانا وعدم اتباعكم سواء لأنكم كنتم في الدّنيا أقل عندنا من أن يكون لكم علينا فضل باتباعكم بل كفرتم اختيارًا لا إنّا حملناكم على ذلك إجبارًا وأنّ قوله: {فما} معطوف على جملة محذوفة بعد القول دلّ عليها ما سبق من الكلام والتقدير {قالت أولاهم لأخراهم} ما دعاؤكم الله بأنّا أضللناكم وسؤالكم ما سألتم فما كان لكم علينا من فضل بضلالكم وأن قوله: {فذوقوا العذاب} من كلام الأولى خطابًا للأخرى على سبيل التشفي منهم وأنّ ذوق العذاب هو بما كسبت من الآثام لا بسبب دعواكم أنا أضللناكم، وقيل: {فذوقوا} من خطاب الله لجميعهم. اهـ.